Engaging the Post-ISIS Iraqi Religious Landscape for Peace and Reconciliation (Arabic)
إشراك القيادات الدينية العراقية في عملية السلام والمصالحة خلال مرحلة ما بعد داعش
ملخص
إن لدى الفاعلين الدينيين في العراق على اختلاف انتمائهم الديني والطائفي تأثيرا كبيرا في الوعي الجمعي، ويَنظر لهم المجتمع باعتبارهم أصحاب دورٍ في تعزيز سير البلاد نحو السلام. ومع أن إشراك الفاعلين الدينيين في جهود المصالحة لا يُعدُّ في حد ذاته ضمانة لنجاح تلك الجهود، لكن الأكيد أن استبعادهم منها سيؤدي إلى إخفاقها. وإن الأقليات الدينية تشكل جزءاً مهماً في هذا المشهد المعقد. ولا شك أن التصدي للتحديات التي تواجه الفاعلين الدينيين أمرٌ ضروريٌ لتعزيز جهود السلام والمصالحة المنطلقة من الاعتراف بتعدد الأديان.
لقد تضمن البحث الذي انبثق منه التقرير الماثل إجراء 571 مقابلة شبه مقننة. وقد أجريت المقابلات بين أواخر 7102 وأواخر 8102 في عدد من المدن والمناطق المحيطة بها. هذه المدن هي بغداد، والبصرة، وديالي، ودهوك، وأربيل، وكربلاء، وكركوك، والموصل، والنجف، والسليمانية، ومحافظتي الأنبار ونينوى. وتبين نتائج البحث أن العراقيين يوافقون، بل بالأحرى يرغبون رغبة حقيقية، في إشراك الفاعلين الدينيين في العديد من الجهود الرئيسية المتعلقة ببناء السلام. من أمثلة هذه الجهود مكافحة التطرف والطائفية، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الأديان الأخرى، وتعزيز المصالحة الاجتماعية على المستوى المحلي، وتمثيل المواطنين فيما يتصل برفع شكاواهم إلى الجهات الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، فقد كشفت الدراسة الماثلة عن وجود عدد من النزاعات ذات الأبعاد الدينية داخل الديانات والطوائف المختلفة وفيما بينها، وأن الفاعلين الدينيين قد يلعبون دورا مهما في التخفيف من حدة هذه النزاعات .
فضلا عن ذلك، تعتبر المواقع الإلكترونية والمدونات والوسائط الأخرى مصادرَ أساسيةً للإرشاد الديني. كما أن للقنوات التلفزيونية الدينية والمحطات الإذاعية والشخصيات الدينية تأثيرا كبيرا في وعي المواطنين على مستوى صياغة المواقف والتصورات المختلفة. في نفس الوقت، فقد لوحظ بروز اتجاهٍ جديدٍ آخذ في الصعود يتمثل في بروز حركات دينية تضم أعضاء من ديانات وطوائفَ مختلفة. من الأمثلة على ذلك الطريقة الصوفية الكسنزانية وحركة الداعي رباني في ديالي اللتان تضمان مريدين وأعضاء من السنة والشيعة. ولعل ذلك ما يتيح الفرصة لقادة هذه الحركات لريادة جهود المصالحة فيما بين الطوائف المختلفة .
وإذ يسعى بناة السلام وصنّاع السياسات لتأسيس شراكات مع الفاعلين الدينيين العراقيين والمؤسسات الدينية ضمن سياق جهود بناء السلام، فعليهم أن يكونوا حساسين لطبيعة المجتمعات الدينية والفاعلين الدينيين، وهي طبيعة معقدةٌ بكل تأكيد. عليهم أيضا أن يحرصوا على ضمان إشراك جميع الأطراف، وأن ينتبهوا لتأثير هذا الإشراك في وضع الشرعية المتصورة التي يحظى بها الفاعلون الدينيون.
الاستنتاجات والتوصيات
إن إحدى عواقب مرحلة تنظيم داعش حدوث تحولات جوهرية في المشهد الديني في العراق. وفي معرض الاستجابة لتلك التحولات، أقدمت القيادات الدينية في بعض المجتمعات الدينية على تعديل أسلوب ممارسة بعض الطقوس الدينية، وتعديل بعض المعتقدات والنصوص. لقد تغيرت أنماط الاصطفاف فيما بين المجتمعات الدينية وفيما بين المؤسسات. بعض المجتمعات الدينية عززت التعاون القائم بينها تعزيزا جادا، بينما تأثرت العلاقات فيما بين مجتمعات دينية أخرى تأثرا سلبيا يبدو أنه سيطول أمَدُه.
لقد تمخض سياق ما بعد داعش عن نشوء فرصٍ جديدةٍ وحاجاتٍ جديدةٍ بالنسبة للفاعلين الدينيين العراقيين للإسهام في تعزيز جهود السلام والمصالحة مستندين في ذلك إلى الموارد المتاحة لهم وإلى آليات تأثيرهم في الوعي الجمعي على النحو المبين في الدراسة. على سبيل المثال، لوحظ في أوساط المجتمع السني على وجه الخصوص أن عددا كبيرا من الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات أفادوا أن الفاعلين الدينيين هم الأكثر تأهيلا للتدخل في النزاعات التي تتضمن إقدام مواطن على اتهام جارٍ له بأنه كان عضوا في داعش. فضلا عن ذلك، أفاد الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات من جميع المجتمعات الدينية التي غطاها البحث أن الفاعلين الدينيين هم أفضل من يمكنهم ريادة مَسْعى منع ظهور نسخة جديدة من أيديولوجية داعش، وكذلك مَسْعى التصدي لأشكال التطرف الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، أدت عملية إعادة الإعمار التي دُشنت خلال مرحلة ما بعد داعش إلى بروز توترات جديدة داخل المجتمعات الدينية العراقية وعلى مستوى علاقات المجتمعات الدينية ببعضها. وتنبغي معالجة هذه التوترات ضمن سياق الجهود التي تهدف إلى تعزيز السلام. لقد أدى تدفق المساعدات الخارجية إلى اقتتال داخلي بين المسيحيين وغيرهم من الأقليات. أما في الساحة الشيعية، فهناك خشية، لا سيما بين الشيعة المقيمين في جنوب البلاد، أن يذهب المزيد من المساعدات الخارجية المخصصة لإعادة الإعمار للمجتمعات السنية بينما لا يحظون هم بموارد تتيح لهم تنمية متكافئة. كما يخشى الشيعة عدم الاعتراف بالتضحيات التي قدمها أبناء طائفتهم الذين قُتلوا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وعليه، فإنه يمكن للفاعلين الدينيين أن يلعبوا دورا في التخفيف من حدة هذه النزاعات وغيرها، لا سيما النزاعات التي لها بعد ديني أو النزاعات التي تحصل بين أطراف ذوي هويات دينية مختلفة.
وإذ تبرز هذه الفرص الجديدة، فإن هناك محاذير هامة تتصل بها ينبغي التنبه لها. بادئُ ذي بَدء، ينبغي للفاعلين الدينيين تَوَخِّي الحذر خلال بذل أي جهود تهدف إلى التخفيف من حدة النزاعات، وبناء المصالحات داخل المجتمعات الدينية وفيما بينها، ودعم السلام على نطاق أوسع. كما ينبغي للفاعلين الدينيين توخي الحذر خلال بذل أي جهود تهدف إلى دعم الشراكات التي تؤسس بينهم وبين صنّاع السياسات المحليين والدوليين وبناة السلام. بالإضافة لذلك، ينبغي لجهود الفاعلين الدينيين أن تراعي قلق المجتمع من انخراطهم في الاستقطابات السياسية الحزبية. كما ينبغي لجهودهم أن تراعي كيف يتعزز تأثير الفاعلين الدينيين أو يتضرر بعلاقاتهم بأطراف أجنبية، وبحضورهم على الإنترنت، وبتلبيتهم حاجات مجتمعاتهم.
لى نطاق أوسع، إن صنّاع السياسات ومنفذيها بحاجة أن يضمنوا أن هوية الأطراف التي يؤسسون الشراكات معها في الساحة الدينية وطريقة تأسيس تلك الشراكات تعكس الهدف الذي يسعون إلى تحقيقه وهو بناء دولة عراقية ومجتمع راقي تتحقق فيهما المشاركة الشاملة لكل الأطراف وتتعايش فيهما مكونات المجتمع المتنوعة بسلام.
إشراك الفاعلين الدينيين
كشفت المقابلات التي أجريت عن أن تصورات العراقيين للمصالحة تصب في ثلاثة اتجاهات. أولا، يميز العراقيون بين المصالحة السياسية أو الوطنية وبين عمليات المصالحة المجتمعية أو المحلية. ثانيا، يرغب العراقيون في إشراك القيادات الدينية في المصالحة المجتمعية (على المستوى المحلي)، لكن ليس في المصالحة السياسية (على المستوى الوطني)،(أو في السياسة الوطنية عموما). أخيرا، يرغب العراقيون أن تشارك الأقليات الدينية مشاركة جوهرية في جهود المصالحة المجتمعية.
لقد بدأت القيادات الدينية في العراق بالمشاركة فعلياً في الجهود التي تصب في تعزيز المصالحة في مجتمعاتهم، وأحيانا في الجهود التي تصب في تعزيز المصالحة بين المجتمعات الدينية مستلهمين المبادئ الدينية ومستفيدين من الشعائر والمناسبات الدينية لتحقيق المصالحة. كثير من الجهود التي بذلها الفاعلون الدينيون كانت ظرفية ونتجت عن مبادرات شخصية، ومع ذلك فقد كانت جهودا واعدة. على الرغم من ذلك، فقد أبدى بعض الفاعلين الدينيين حذرا من المشاركة في الجهود الرسمية للمصالحة، وهو حذرٌ مُفهوم. كثير من العراقيين أصبحوا ينظرون إلى عمليات المصالحة السابقة باعتبارها مراتع فساد. لذلك، هناك حاجة ماسة لإنشاء آليات مؤسسية لتحصين جهود المصالحة على المستوى الوطني من محاولات تيسير الحصول على مكاسب شخصية لأولئك المشاركين فيها. على المستوى الوطني، قد يكون الفاعلون الدينيون قادرين على أن يمارسوا دور الضامن لعمليات مصالحة أكثر رسمية للتأكد من أن هذه العمليات تخضع للمساءلة استنادا لمجموعة من المبادئ على رأسها الشفافية والمساءلة المجتمعية. لكن يُشترط ألا يحصل تشابك بين دور الفاعلين الدينيين وبين العمليات السياسية على نحوٍ يشوهُ صورتهم في الوعي الجمعي. على المستوى المحلي، بينما تحوم الشكوك حول مصداقية بعض السياسيين، فإن الفاعلين الدينيين الذين يتمتعون باحترام واسع وتأثير كبير عادة ما تكون لديهم المصداقية التي تؤهلهم أن يشرفوا على عمليات المصالحة أو أن يلعبوا دور المُيسر في تلك العمليات.إن الشراكات التي تؤسس مع الفاعلين الدينيين فيما يتصل بجهود المصالحة يجب أن تراعي الأمور الآتية.
أولا، ينبغي لصنّاع السياسات ومنفذيها مراعاة التعقيدات الموجودة في المجتمعات الدينية، وكذلك التعقيدات ذات الصلة بعلاقات تلك المجتمعات ببعضها البعض. كما ينبغي لصنّاع السياسات ومنفذيها مراعاة كيفية تقاطع أدوار الفاعلين الدينيين والمؤسسات الدينية مع أدوار الفاعلين السياسيين، ومع المؤسسات السياسية، ومع القضايا التي تؤثر في النزاع الأوسع في العراق، وذلك وَفقا لما ورد في هذا التقرير.
إن تأسيس الشراكات بين الأطراف الدولية المَعنية وبين الفاعلين الدينيين في العراق يؤثر في نفوذ الفاعلين الدينيين وفي نظرة مجتمعاتهم لهم. إن تحالفات الفاعلين الدينيين العراقيين مع الفاعلين الأجانب كالدبلوماسيين وبناة السلام والقيادات الدينية العالمية يمكن أن تؤدي إلى بروز أصواتٍ ذات مصداقية وذات تأثير أكبر، وإلى مبادراتٍ فعالة للحد من العنف وتحقيق المصالحة شريطة أن تدار هذه التحالفات بحكمة. بناء على ذلك، لابد من بذل عناية خاصةٍ لتبين أيٍّ من الشراكات التي تؤسس مع أطراف أجنبية هي شراكات مفيدة، وفي أي ظروف وذلك لضمان ألا تُؤدي الشراكات مع الخارج إلى الانتقاص من مصداقية الفاعلين الدينيين. على سبيل المثال، لوحظ أن دعم السعودية لجهود الزعماء المسيحيين في المصالحة كانت مفيدة. في المقابل، نظر البعض لدعم إيران للقيادات الشيعية فيما يتصل بجهود المصالحة في البصرة على أنه ناتج عن دوافع سياسية. وعلى وجه الخصوص، نجد أن القادة الدينيين الذين ينظر لهم المجتمع على أنهم على علاقة مع الولايات المتحدة أو الغرب تتأثر مكانتهم سلبا في الوعي العام بسبب ذلك، ويُخرجهم المواطنون من حساباتهم، وتتراجع قدرتهم على التأثير تراجعا حادا.
بجانب ذلك، من الضروري بذل جهد إضافي لاكتشاف ودعم الفاعلين الدينيين من النساء والشباب الذين يلعبون أدوارا مؤثرة في مجتمعاتهم في دعم السلام. وذلك اعترافا بقدرة هؤلاء الفاعلين في التأثير في صياغة المواقف والسلوكيات المجتمعية، ولضمان ألا يؤدي إشراك الفاعلين الدينيين إلى تعزيز الهيمنة الذكورية. وبالمثل، ينبغي لجهود إشراك الفاعلين الدينيين أن تعطي الأولوية لإشراك قيادات الأقليات الدينية نظرا لما يواجهونه من مخاطر متزايدة والأولويات الخاصة بهم، ولضمان ألا تؤدي جهود إشراك الفاعلين الدينيين إلى مضاعفة هيمنة المجتمعات الإسلامية التي تتسم بالأغلبية العددية.
لقد برزت مواقف متشككة بين أوساط المجتمعات العراقية بشأن انخراط الفاعلين الدينيين في جهود السلام. وعليه، فقبل توسيع نطاق ذلك الانخراط أو تعزيزه، ومن أجل تيسير الحوار بين الفاعلين الدينيين ومجتمعاتهم المحلية، سيكون من الحكمة فهم هذه الشكوك وضمان تفهم الفاعلين الدينيين لطموحات مجتمعاتهم ومخاوفها وبالعكس. ولعله من الضروري عدم الضغط على الفاعلين الدينيين لإصدار بيانات متكررة حول قضايا الشأن السياسي على المستوى الوطني لأن ذلك قد ينتقص من قدرتهم على التأثير ومصداقيتهم أمام أفراد المجتمع. فعلى وجه العموم، يفضل المجتمع أن تظل قياداته الدينية أكثر تركيزا على القضايا المتصلة بالشواغل الروحية والشواغل المجتمعية والمحلية.
في سياق آخر، يمكن لمبادرات تعزيز المصالحة بالشراكة مع الفاعلين الدينيين أن تشمل التعاون وتنسيق الحضور في الساحة العامة عبر وسائل الإعلام. وعلى وجه الخصوص، يمكن لبرامج التعاون هذه أن تركز على التنسيق مع الفاعلين الدينيين الذين هم بالفعل يلبون حاجات مجتمعاتها المتضررة من النزاع، أو الذين يرغبون أن يشاركوا في تلبية حاجات مجتمعاتهم مشاركة أكبر وأوسع. ويمكن بذل هذه الجهود داخل المجتمعات الدينية. كما يمكن بذلها على مستوى التعاون بين المجتمعات الدينية، حيثما كان ذلك ملائما، بحيث تؤدي إلى تعميق التفاهم وتوطيد العلاقات بين أتباع الديانات والطوائف. وقد تتطلب الشراكات التي تُؤسَّسُ لدعم هذا المَسْعى تصميم وتنفيذ برامج لبناء القدرات، وتصميم برامج المعونة، وتصميم وتنفيذ المشاريع. وقد تتطلب الشراكات أيضا تبادل الزيارات مع بلدان شهدت سياقات مناظرة، أي بلدانٍ مَرَّت بمرحلة ما بعد النزاع ولعب خلالها الفاعلون الدينيون دورا حيويا في جهود المصالحة.
ويمكن أن ينبثق عن ذلك عددٌ لا يُحصى من المشروعات. على سبيل المثال، يمكن تعزيز الجهود لتوفير دعمٍ للتعافي من الصدمات الناتجة عن النزاع، وذلك باستخدام صيغ العلاج التقليدية، وبالاستفادة من الشعائر الدينية وطرق الاستشفاء التي تسهل التعافي، وذلك نَسْجا على منوال نهج بابا شيخ في المجتمع الأيزيدي. كما يمكن توسيع نطاق الاستفادة من الرقيا أو طرق الاستشفاء الإسلامية لمعاونة الأفراد في التعامل مع الصدمات التي تعرضوا لها، ومعاونة المجتمعات في التعامل مع التصدعات التي أصابتها.
هذا، ويمكن تقديم الدعم للفاعلين الدينيين لتطوير قدراتهم على فهم حاجات مجتمعاتهم وتقديم خدمات المناصرة أمام الجهات الرسمية المحلية لتلبية تلك الحاجات. ويشمل ذلك تلبية حاجات أبناء دياناتهم وطوائفهم وحاجات أبناء الديانات والطوائف الأخرى الذين يجمعهم بهم العيش المشترك. وقد يجدر بجهود التيسير أن تركز على تسهيل عودة المجتمعات النازحة، وإيجاد بيئة مرحبة وآمنة لها، وكذلك مساعدة تلك المجتمعات النازحة على إعادة البناء، وتوفير الإغاثة والدعم لها على المدى القصير لاستعادة سبل تَعَيُّشِهم، والمساعدة في تخفيف حدة النزاعات التي تنشأ بين المجتمعات العائدة من النزوح وأولئك الذين لم يغادروا.
إن المبادرات التي تهدف إلى المساعدة في تخفيف النزاعات المحلية داخل المجتمعات الدينية وعلى مستوى علاقات المجتمعات الدينية ببعضها تنطوي على فرص وإمكانات حقيقية. أبرز صور هذه النزاعات الخلافات التي حصلت فيما يتصل بالسياسة الغذائية في جميع أنحاء الشمال، والخلافات التي حصلت فيما يتصل بأوضاع ذلك العدد المتزايد من الأفراد الذين يُعرِّفون أنفسهم بأنهم ملحدون أو الذين ينتقدون المعتقدات والممارسات الدينية السائدة. ومن صور هذه النزاعات أيضا التوترات المرتبطة بتوصيل المساعدات الخارجية (خاصة في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم داعش)، والتوترات بين أتباع الشيرازيين وأتباع مرجع النجف. كما تشمل هذه النزاعات غير ذلك من خلافات أشرنا إليها في هذا التقرير. بالإضافة لما سبق، فمع عودة المجتمعات المسيحية إلى المناطق التي كانت في السابق تحت سيطرة داعش، يجب على بناة السلام اغتنام فرصة اللحظة المسكونية ــــ التي تتوحد خلالها الطوائف المسيحية ــــ من أجل السعي لتخفيف حدة الصراع الداخلي بين الطوائف المسيحية.
قد يجدر أن تكون هناك برامج أخرى تهدف إلى إيجاد بيئة تتسم بالتعايش السلمي والثقة المتبادلة والاحترام. من أمثلة الجهود الرصينة المنشودة في هذا الصدد الآتي: أولا، تأسيس حوار مستمر ومنتظم بين أتباع كل مجتمع ديني، وفيما بين المجتمعات الدينية لمعالجة المخاوف التي تنطوي على حساسية أو الافتراضات السائدة التي تولد عدم الثقة. ثانيا، التعاون فيما بين المجتمعات الدينية لمعالجة المخاوف المشتركة على المستوى المحلي، وبغية إعلاء صوت المطالبة بعدم التمييز على أساس الهوية وعلى أساس الممارسة الدينية على المستوى الوطني. ثالثا، إقدام كلٍّ من المجتمعات الدينية على تطوير الأفكار والممارسات التي تعزز فهم التنوع الديني في العراق واحترامه.
أخيرا، قد يكون التعاون مثمرا كذلك إذا ما تضمن التنسيق مع السلطات الدينية التي تستخدم أساليب مبتكرة فيما يتصل بتطوير الفتاوى، وذلك بغية رصد الأحكام الشرعية التي تحض على المصالحة والتعايش والسلام، وصياغة التوجيهات الشرعية التي تحض على ذلك.
أخيرا، قد يكون التعاون مثمرا كذلك إذا ما تضمن التنسيق مع السلطات الدينية التي تستخدم أساليب مبتكرة فيما يتصل بتطوير الفتاوى، وذلك بغية رصد الأحكام الشرعية التي تحض على المصالحة والتعايش والسلام، وصياغة التوجيهات الشرعية التي تحض على ذلك.
في سياق آخر، قد يجدر إنشاءُ منصاتٍ إعلاميةٍ لتسهيل إشراك أتباع الأديان المختلفة، وزيادة فهم طبيعة المجتمعات الدينية المتنوعة في العراق، ودعم الحرية الدينية لأصحاب المعتقدات في جميع المجتمعات الدينية ولمن لا يحملون معتقدا. أيضا، هناك حاجة إلى برنامج تلفزيوني يوفر منصة لإشراك جميع المجتمعات الدينية وبناء جسور التفاهم بينها. ولا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي ستمثل هي الأخرى منصة مهمة لإنجاح هذا المَسعى.
هذا، ويجب تطوير برامج خاصة للتوعية ولإعادة الدمج في المناطق المحررة من تنظيم داعش. ولعل أبرز ما ينبغي إيلاؤه الأولوية في هذا الصدد هو إعادة دمج مجتمعات الأقليات وكذلك أفراد أسر أعضاء داعش الذين لم يكونوا جزءا من داعش لكنهم تعرضوا للإقصاء بسبب صلتهم تلك. وبالنسبة لكل من الطرفين المذكورين، يجب إعادة بناء جسور الثقة فيما بينهم وبين مجتمعاتهم حتى يتمكنوا من العودة إلى مجتمعاتهم وسبل كسب عيشهم.
وفي تحديد الفاعلين الدينيين الذين ينبغي تأسيس شراكات معهم فيما يتصل بجهود المصالحة، ينبغي لصناع القرارات ومنفذيها مراعاة أن طبيعة الفاعلين الدينيين طبيعة معقدة، كما هو حال مجتمعاتهم. فالفاعلون الدينيون الذين قد يتسمون بالاعتدال في بعض الجوانب قد يأتون بأفعالٍ تنطوي على إهدار لحقوق الإنسان في جوانب أخرى. ويجدر أن يشمل إشراك الزعماء الدينيين الذين يمثلون جميع المجتمعات الدينية إشراكا جادا ودون تأخير. ويأتي على رأس قائمة الشركاء ذوي الأدوار الهامة الفاعلون الدينيون الذين يحسنون التواصل مع مجتمعاتهم، والذين يُحسنون تأسيس الشراكات معها، على نحو يضمن امتلاك العراقيين لعمليات السلام والمصالحة.
إن الفاعلين الدينيين الذين لديهم حضور إعلامي قوي على الإنترنت – أو الذين لديهم استعداد لبناء حضور قوي على الإنترنت – يمكن أن يكونوا شركاء ذوي تأثير واسع في بعض المشروعات، لا سيما تلك المشروعات التي تهدف إلى تعزيز السلوكيات التي تنطوي على احترام التنوع والسرديات الدينية الداعمة للسلام. بالمقابل، وبالنسبة للفاعلين الدينيين الذين ينظر لهم المجتمع على أنهم يتباهون بالثراء، أو الذين يتسم سلوكهم بعدم التواضع، فإن احتمالات وثوق مجتمعاتهم بهم ضئيلة، وإن احتمالات تمتعهم بقدرة على التأثير وسط مجتمعاتهم ضئيلة.
هذا ولا شك أن جهود المصالحة ستستفيد من إشراك القيادات الدينية النسائية التي لديها قدرة على التأثير على المستوى المحلي، والتي يستند تأثيرها إلى الانتساب لعائلة عُرفت بأنها صاحبة دور ديني وإلى التأهيل الديني. على سبيل المثال، في الساحة الشيعية، يمكن للنساء اللائي يمارسن دور المُلَّاية أن يصبحن شريكات رئيسيات لا سيما فيما يتصل بتلبية حاجات النساء العراقيات على مستوى السلام والمصالحة. وباستطاعة الراهبات الكاثوليك فِعل ذلك أيضا، وربما النساء اللائي ينتسبن لعائلات عُرفت بأنها صاحبة دور ديني. هذا، وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي موردا غير مُستغلٍ حتى الآن بالنسبة للقيادات الدينية النسائية العاملة في بناء السلام ليتسنى لهن التأثير من خلال الأتباع، فضلا عن أن ذلك يتيح للقيادات لدينية النسائية تجاوز المؤسسات الأبوية والأنظمة الأبوية التقليدية.
إن صنّاع السياسات ومنفذيها بحاجة إلى إدراك أن الزعماء الدينيين الشيعة، في بعض الأحيان، هم الطرف الذي يُرسي القواعد التي تحكم الحيز العام والتي تلتزم بها المجتمعات الدينية الأخرى. وعليه، فإنه قد تكون للتدخلات التي تصمم بعناية بالتشاور مع القيادات الشيعية نتائج إيجابية أوسع. هذا، وإن التفكير خارج حدود العراق أمرٌ ضروريٌ عند النظر في إشراك الجهات الدينية في جهود بناء السلام. كذلك من الضروري تبين تأثير الشخصيات الدينية العالمية في المجتمع العراقي وما تحظى به من شعبية والاستفادة من ذلك. على أنه تنبغي مراعاة الكيفية التي قد يؤثر بها التواصل بين هذه الشخصيات الأجنبية وبين الفاعلين الدينيين المحليين في شرعية الفاعلين الدينيين.
إشراك المؤسسات
تعتبر المؤسسات الحكومية، مثل وزارة الشؤون الدينية، ومجلس دار الإفتاء، والأوقاف السنية والشيعية، شركاء محتملين فيما يتصل بالمصالحة وبناء التماسك الاجتماعي والتسامح والاحترام في المجتمعات الدينية. وقد تكون الكليات والمعاهد الدينية أفضل من قد يتسنى له نشر القيم التي تعزز بناء السلام بين طلابها. كما أن الكليات والمعاهد الدينية قادرةٌ على أن تُتيح للملتحقين بها استيعاب مفاهيم السلام وأسس فض النزاعات استيعابا علميا متكاملا. كما يمكن الاستفادة من الكليات والمعاهد الدينية في تأهيل الفاعلين الدينيين العاملين في القطاع الرسمي بالدولة وتدريبهم.
أما خارج المؤسسات الرسمية للتعليم الديني، فقد تستفيد جهود المصالحة من الأهمية المتزايدة للحسينيات بين الشيعة. وستكون هناك حاجة أيضا إلى الجهود التي تستهدف ذلك العدد المتزايد من الأفراد الذين نسميهم شيعة مترددين. فهؤلاء من غير المرجح أن يستفيدوا من التعاون مع الحسينيات.
بجانب ذلك، إن نشر المعرفة بالأديان في جميع أنحاء البلاد يجب أن يكون أولوية. ذلك أن القنوات التلفزيونية والإذاعية الدينية تتمتع بمتابعة كبيرة في المجتمع العراقي. وهي توفر منصة للجهات الفاعلة الدينية للتأثير في سلوكيات المواطنين وممارساتهم. ليس هذا فحسب، بل توفر أيضا برامج تمثل مداخل فعالة لرسائل معدة لنشر قيم المصالحة وبناء السلام، وفي نفس الوقت هي مساحات تستطيع الجهات الدينية الفاعلة توظيفها للتأثير في المجتمع بنجاح.
ومن الطرق الأخرى لإشراك المؤسسات الدينية تأسيس الشراكات مع كليات الشريعة والمعاهد الدينية وغيرها من المؤسسات التعليمية الدينية لمساعدتها على إقامة دروس تتناول الحوار وفض النزاعات وبناء السلام والتعافي من الصدمات. كما يمكن للمدارس الحكومية أن تدمج بناء السلام في المناهج الدراسية. والتعاون مع المعاهد الدينية والمدارس، لا سيما تلك التي أخذت تجري مراجعات فيما يتصل بالكتب المقررة لديها ومناهج التعليم، يعتبر فرصة أخرى تحديدا للعمل على إزالة المسوغات الدينية للعنف تجاه المجتمعات الدينية الأخرى وإدراج نصوص دينية تحض على التسامح والاحترام فيما بين المجتمعات الدينية. ويمكن استكشاف كيفية تأسيس شراكات مع الحسينيات كي تستحدث مواد تعليمية حول السلام، وبناء القدرات لفض النزاعات، وإيجاد مساحة للحوار بين الأديان، وبناء التسامح والاحترام بين الطوائف، بما في ذلك بين النساء والشباب.
بجانب ذلك، يمكن استكشاف الفرص المتاحة للتعاون مع الحركات الدينية الجديدة متعددة الطوائف، مثل حركة الداعي رباني في ديالى والطريقة الصوفية الكسنزانية. هذه الجهود يمكن أن تتيح فرصة أخرى لتأسيس شراكة مع مجموعات قد بدأت بالفعل تتصدى للتوترات القائمة بين أتباع الطوائف المختلفة. وعندما تُنجز الهيئاتُ الحكومية مثل وزارة الشؤون الدينية أو الأوقاف السنية أو الشيعية توحيد الخطب، ستتاح فرصة أخرى للعمل مع هذه المؤسسات لتشجيع نشر القيم التي تشجع على السلام والتسامح والاحترام والمصالحة بطرق لا تقيد حرية التعبير أو الحرية الدينية. ولا شك أن الشراكة مع الشبكات الدينية الكبرى يمكن أن تكون خطوة بناءة، خاصة تلك الشبكات التي تشارك في تقديم الخدمات الاجتماعية، وذلك لدمج البرامج التي تشجع على التسامح والاحترام والتماسك الاجتماعي والمصالحة. وقد يكون من الممكن العمل مع هذه الشبكات في بناء الثقة بين المجتمعات الدينية في المناطق التي سبق أن سيطر عليها تنظيم داعش.
أما الخيار الأخير فهو إنشاء آلية مؤسسية تتيح للعراقيين وتمكنهم من أن يكون لهم رأي في اختيار ممثليهم والنواب الذين ينوبون عنهم في حوارات المصالحة على المستويين الوطني والمحلي. ويجب ألا يقتصر هؤلاء الممثلون والنواب على الفاعلين الدينيين، بل يجدر أن يشملوا أيضا زعماء القبائل وممثلي المجتمع المدني وممثلي المجتمع الاقتصادي وممثلي المجتمع السياسي.
نبذة عن التقرير
يستعرض هذا التقرير نتائج571 مقابلة أجريت مع مواطنين عراقيين في عدد من محافظات العراق هي بغداد، والبصرة، وديالي، ودهوك، وأربيل، وكربلاء، وكركوك، والنجف، والسليمانية والأنبار ونينوى. تُـعَــدُّ الدراسات والمقابلات التي تمخض عنها التقرير الماثل جزءا من مبادرة معهد الولايات المتحدة للسلام لرسم خريطة للمشهد الديني في البلدان التي عصفت بها النزاعات، وهي تهدف إلى تبين القيادات والمؤسسات الدينية التي يعتبرها العراقيون أكثر تأثيرا، وإلى تبين الأفكار الدينية التي تؤثر في جهود المصالحة في البلاد.
المؤلفة في سطور
آن وينسكوت أستاذة مساعدة للعلوم السياسية بجامعة ميامي في أوهايو. وهي متخصصة في الأشكال المعاصرة للتنظيم الديني في المجتمعات الإسلامية. من عام 7102 إلى عام 8102، شغلت آن وينسكوت منصب زميل لوس في الدين والشؤون الدولية في معهد الولايات المتحدة للسلام. صدر لها كتاب «تحويل الإسلام شأنا بيروقراطيا: المغرب والحرب على الإرهاب»، الذي نشرته دار النشر التابعة لجامعة كامبريدج في عام 7102.