إعادة عملية الانتقال السياسي في السودان إلى مسارها الصحيح
لا بد أن تتوافق الإجراءات التي تتخذتها الولايات المتحدة في السودان مع أفكار التجديد الديمقراطي.
قد حكم الجيش السودان لمدة 53 عامًا من أصل 66 عامًا مضت منذ حصوله على الاستقلال عام 1955. وفي 25 أكتوبر/تشرين الاول استولى الجيش، في حركة مألوفة على السلطة مما ألقى بظلال من الشك على التحول السياسي الذي من شأنه أن يؤدي إلى حكم مدني. وتم حل القيادة المدنية واعتقال قادتها وإعلان حالة الطوارئ. واستشهد قائد الانقلاب الجنرال عبد الفتاح برهان بمبررات بالية لتبرير أفعاله. وفي وقت لاحق أعيد رئيس الوزراء المخلوع عبد الله حمدوك إلى رئاسة حكومة تكنوقراطية إلى أن يحين موعد الانتخابات المقرر إجراؤها في يوليو/تموز 2023.
في هذا العام وحده شهدت أفريقيا انقلابات في بلدين آخرين (اثنان في مالي وواحد في غينيا)، ومحاولة انقلاب فاشلة في النيجر، ونقل عسكري تعسفي للسلطة في تشاد بعد وفاة الرئيس على جبهة القتال. وقد بدأت عمليات الاستيلاءات على السلطة في التحرك على نحو مقلق فيما يتصل بالتحول السياسي، كما وضعت علامة استفهام حول مسار التحول الديمقراطي في أفريقيا.
حين تشير العناوين الرئيسية عن الانقلابات غالبًا إلى "تراجع" الديمقراطية أو فشل الانتقال السياسي، فإن هذا يحجب السرد القوي بنفس القدر حول رد القوى على الانقلابات. ومن بين المواضيع الغائبة عن العناوين الرئيسية قصص القيادة الشجاعة للشباب والنساء والجماعات المدنية والسياسية السودانية التي تنظم وتحتج وتحمي مجتمعاتها من العنف. وتتضمن هذه القصص غير المروية ايضاً المفاوضات المكثفة بين الخبراء والدبلوماسيين ورؤساء الدول من أجل دعم معايير الاتحاد الأفريقي في مكافحة الانقلابات العسكرية والتغيرات غير الدستورية التي تطرأ على الحكومة. ونادرًا ما يتصدر الأخبار نبأ الوسطاء السودانيين الساعيين إلى فتح المجال لاتفاق سياسي جديد يسمح للبلاد بالمضي قدمًا وإعادة تعريف "الأمن" كشيء يتمحور حول المواطنين وليس النظام. وباختصار، كثيرًا ما نتغاضى عن سرد العمل الجاد من أجل السلام والديمقراطية.
انقلاب مفاجئ؟
ومن نواح كثيرة، كان من المتوقع حدوث الانقلاب العسكري الواقع في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. في الواقع، حذرت عناصر مدنية داخل الحكومة الشركاء الدوليين من خطر وقوع انقلاب في منتصف سبتمبر/أيلول، كما وقعت محاولة انقلاب في 21 سبتمبر/أيلول. وفي الأيام التي سبقت 25 أكتوبر/تشرين الأول، أثار القادة العسكريون داخل الحكومة المخاوف بشأن أمن واستقرار البلاد، وكان هناك نقد متزايد للقيادة المدنية. وعلي الرغم من أن الانتقادات الموجهة إلى ضعف الحكم والقيادة تستند إلى بعض الأسس إلا أنها ليست مبررًا لانقلاب عسكري.
أيضاً زاد التطرق الي المعايير الحاسمة التي تناولت المصالح والأولويات والمخاوف الأساسية للشركاء الأمنيين في المرحلة الانتقالية من خطر قيام الجيش بخطوة غير دستورية. وشمل ذلك مناقشات حول إصلاح القطاع الأمني ودور العناصر الأمنية في الاقتصاد. كما تضمنت هذه المعايير "نقل السلطة" من رئيس مجلس السيادة الي الهيئة التنفيذية - ا( من برهان إلي زعيم مدني، وايضاً عملية المساءلة المتوقعة عن الأرواح التي قُتلت والمتضررين خلال ثورة 2019 وفي عقود سابقة.
من نواحٍ أخرى، كان الانقلاب مفاجئًا. ويتحدث السودانيون عن دهشتهم من أن شركاء مثل الولايات المتحدة لم يكونوا أكثر نشاطًا في صياغة تسوية سياسية جديدة بين العناصر العسكرية والمدنية، بل وحتى الإصرار عليها. كما يتحدث السودانيون عن دهشتهم من أن الولايات المتحدة لم تؤثر تأثيرًا فعالًا على حلفائها في مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل وان كل هذه الدول لديها مصالح في استقرار السودان. وفي مفاوضات 2019 ، تمكنت الولايات المتحدة وشركاؤها من صياغة إجماع على أن حكومة التي يقودها مدنيون - أو على الأقل تقوم على خطة ذات مصداقية وملزمة تجاه حكومة يقودها مدنيون - هي أفضل طريقة لضمان مثل هذا الاستقرار في السودان والمنطقة .
هل ضاعت الفرصة؟
وإذا كان من الممكن التعرف على خطر الانقلاب في السودان، فهل كان من الممكن منعه؟ أو على نحو أكثر تواضعًا، هل ضاعت الفرص لزيادة احتمالية أن التحول السياسي يمكن أن يصحح مساره ويبقى على المسار الصحيح؟
أولًا، لابد من وضع تحليل رصين، قائم على أساس متين وعلي الاستجابة السياسية بين أيدي هؤلاء الذين يقودون السياسات وينفذونها. وتظل الحقيقة هي أن الأفراد - السودانيين والدوليين على الحد السواء قد رأوا خطر الانقلاب، ولكنهم لم يتمكنوا من تحريك استجابة قوية سريعة في الوقت المناسب لمنعه.
وثانيًا، كانت هناك حاجة إلى ضخ سريع وحاسم لرأس المال لمساعدة الحكومة المدنية في تلبية الاحتياجات من الرواتب وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. فبالنسبة للسودان، بالرغم من انه كانت هناك قضايا معقدة امام الولايات المتحدة تتعلق بتصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب وعقوبات أخرى لاجتيازها. ولكن تظل هناك حوجه قائمة إلى توجهات جديدة للسماح للشركاء الدوليين، بما في ذلك الولايات المتحدة ودورها في المؤسسات المالية الدولية بالتحرك بسرعة أكبر للسماح للحكومات المدنية بتحقيق هذه الأهداف. وهذا لا يعني التفريط في نظم الحوكمة والمسائلة الشفافة وأولويات مكافحة الفساد. لكن لا يمكن معالجة أي من هذه القضايا إذا وقعت البلاد في انقلاب آخر.
ثالثًا، يجب حشد الجهود المستمرة لمساعدة القوى السياسية في البلاد على توطيد قياداتها وعلاقاتهم بين مختلف العناصر المدنية ومع الجهات الامنية والعسكرية، والأهم من ذلك مع مواطنيها ومجتمعاتها ودوائرها الانتخابية. وهذا أكثر من مجرد تشكيل تحالفات سياسية أو تمكين أحزاب سياسية بل إن الأمر يدور حول بناء الثقة ثم الاستفادة من تراكم الخبرة السياسية او ما يعرف "برأس المال السياسي" في اللحظات المناسبة لدفع الإصلاحات الأكثر صعوبة مثل اصلاح القطاع الأمني أو تثبيت الاستقرار الاقتصادي.
وبالرغم من صعوبة هذا العمل، ولكن الاتحاد الأفريقي في وضع يسمح له بدعم التحولات السياسية، كما انه له بنية متكاملة من الوسطاء وشبكات الشباب والمرشدين الرسميين وغير الرسميين على مدى العقدين الماضيين، والتي يمكن تفعيلها. وايضا تلعب الولايات المتحدة دورًا خاصًا بالشراكة مع الاتحاد الأفريقي والقادة المدنيين السودانيين لتعزيز واستدامة الاتفاق مع القوى الإقليمية والعالمية حول أفضل طريق نحو سودان مستقر - والمراقبة المستمرة والتشجيع والتحقق وتفعيل السبل لضمان أن الجهود المالية والدبلوماسية وغيرها تدفع في نفس الاتجاه.
إعادة تعريف الاستجابة
ومن خلال تجربة العام الماضي وتاريخ السودان ذاته، يصبح من الممكن أيضًا استخلاص الدروس حول ما ينبغي القيام به للاستجابة بشكل حاسم وفعال بمجرد وقوع انقلاب.
أولًا، يمكن للولايات المتحدة أن تشارك مع الدول المجاورة والمنظمات متعددة الأطراف في التفاوض من أجل الخروج من الانقلاب وصياغة اتفاق على الدور المناسب للمؤسسة العسكرية. وفي حالة السودان، يقود الاتحاد الأفريقي ويقف بثبات في تطبيق معاييره ضد التغييرات غير الدستورية للحكومة. ولا يزال السودان معلقًا من الهيئة القارية بانتظار تقييم متوقع في يناير/كانون الثاني. يتعين على الولايات المتحدة ـ سواء الإدارة أو الكونغرس ـ أن تصل إلى أعضاء مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، ولجنة الاتحاد الأفريقي، ورئيس الاتحاد الأفريقي، لتقديم الشراكة وإيجاد السبل الكفيلة بضم القوات، وتوفير الموارد وممارسة النفوذ على نحو أشبه بما حدث في أعقاب انقلاب عام 2019 . يمكن للولايات المتحدة أيضًا تقديم الدعم المالي لتفعيل آليات الاتحاد الأفريقي الأخرى - مثل برنامج الشباب من أجل السلام التابع للاتحاد الأفريقي ولجنة الحكماء وشبكة الوسطاء من النساء - دعماً للعودة إلى الحكم المدني.
يمكن للولايات المتحدة زيادة الاستفادة من هذه شراكة مع الدول المجاورة والمؤسسات الإقليمية لمعالجة تأثير أولئك الذين يعملون ضد القيادة المدنية والحكم الخاضع للمساءلة وحقوق الإنسان والحريات السياسية. في حالة حلفاء الولايات المتحدة في الخليج وشمال إفريقيا فإن هذا يعني تعزيز الفهم المشترك للمصالح والأهداف، وإثبات أن الحكومة التي يقودها مدنيون هي أفضل طريقة لتحقيق تلك المصالح المشتركة، وليس فقط من الناحية الخطابية. في حالة أولئك الذين يعتبرون خصومًا يتطلب هذا رسم خطوط واضحة لتعطيل التأثير السلبي الذي من شأنه إبعاد السلطة عن الانتقال السياسي الديمقراطي. وهذا يعني إيجاد مجالات تعاون جريئة حيثما وجدت.
ثانيًا، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل على تعبئة الموارد الاقتصادية المستدامة والشراكة السياسية حتى يتسنى لها أن ترى القادة المدنيين ـ والزعماء العسكريين في دورهم المتفق عليه في خلا خلال فترة انتقالية. وهذا يتطلب وضوح الأهداف، وشراكة حقيقية مع القادة المدنيين وتحالف من الشركاء الأساسيين - الحكومة والمؤسسات متعددة الأطراف والمصارف الإنمائية والمؤسسات المالية - لتقديم الأموال لمنح المدنيين فرصة للنجاح. في حالة حدوث انفتاح في السودان، ومتى يحدث، فلا بد وأن يكون الشركاء الدوليون على استعداد للعمل السريع والحاسم.
ولا بد أن يكون التمويل مصحوبًا بعملية سياسية تعمل على إبرام اتفاق والحفاظ عليه حول المسار والتقدم نحو الانتقال السياسي. اليوم يواصل السودانيون النزول إلى الشوارع للمطالبة بالتغييرات الموعودة خلال الثورة. يجب أن تكون هناك مساحة يتم فيها الاستماع إلى هؤلاء المواطنين - الشباب والكبار، رجالًا ونساءاً، عبر جغرافيا السودان الشاسعة وإشراكهم.
وأخيرًا، الكلمات لها أهميتها. نميل إلى الحديث عن الأمور من حيث ما نأمل أن تصبح عليه. اعتبارًا من عام 2019 ، أشارت الولايات المتحدة إلى "الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية"، كان هذا هو الطموح والالتزام - لكنه لم يكن حقيقة واقعة بعد. وعلى نفس النحو قد يكون الاتفاق بين برهان وحمدوك أفضل صفقة يمكن التوصل إليها في تلك اللحظة، لكن لا يفيد حالة الانتقال السياسي في إعلان "انتهاء" الانقلاب أو إعلان أن الانتقال "يعود إلى المسار الصحيح" حتى يكون هناك شيء مختلف نوعيًا. سوف تتطلب إعادة تشغيل الانتقال السياسي كلمات مكتوبة؛ والأهم من ذلك، ستتطلب إجراءات واضحة وتغيير للسلطة. يتطلب الأمر محادثة صريحة حول ما كان يعمل وما لا يعمل قبل 25 أكتوبر وما هو المطلوب للمضي قدمًا.
بينما تعقد الولايات المتحدة قمتها من أجل الديمقراطية، لا بد أن تتوافق الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في السودان مع أفكار التجديد الديمقراطي. وهذا يعني بشكل أساسي الإنصات، التعامل بجدية، ودعم المواطنين والمنظمات والنقابات والأحزاب السياسية وحتى القادة العسكريين الذين يتصرفون بطريقة سلمية، وبما يتماشى مع قيم ومبادئ الولايات المتحدة. وهذا لا يعني تجاهل دور الفاعلين العسكريين والأمنيين. بل على العكس من ذلك، إن الثقل الدبلوماسي والمالي للولايات المتحدة مطلوب لتوحيد شركائها الأفارقة وعبر المحيط الأطلسي لإعطاء الحيز اللازم لأولئك الذين يعملون بشجاعة لتحديد الدور والمسار المناسبين للمؤسسة العسكرية في المستقبل وتلبية تطلعات والتزام هؤلاء السودانيين ومَن هم على اقتناع بإمكانية انتقال سياسي حقيقي.